مؤلفات

أَشَدُّ السَّاعَاتِ عَلَى الإِنْسَان

سِلْسِلَةُ المَوْتِ وَمَا بَعْدَ
الجزء الرابع

أَشَدُّ السَّاعَاتِ عَلَى الإِنْسَان

الشيخ علي فقيه

أَشَدُّ السَّاعَاتِ عَلَى الإِنْسَان

من قوانين الطبيعة في هذه الحياة الدنيا التي خلقها الله عز وجل أن يشعر من عليها بالأمن تارة وبالخوف والشدائد تارة أخرى، فمرة تراه فرحاً ومسروراً، ومرة تراه حزيناً كئيباً، وأحياناً يكون تعباً، وأحياناً يكون مرتاحاً من الهموم والمشاكل الأمراض وأعباء العيش المتعددة، وتارة يبيت على الطوى من دون طعام يجده، وأخرى يبيت شبعاناً وربما يبيت على التخمة القاتلة.
إذاً .. قد يواجه الإنسان في دار الدنيا كثيراً من المواقف الصعبة، ويذوق المرارات المتنوعة، وتمر عليه المحن والمخاطر والقلق وكثير من اللحظات المخيفة والساعات الشديدة، غير أن جميع شدائد الدنيا لا تقاس بذرة من شدائد الآخرة، ونحن في هذا المقام لا نذكر هذه الأمور من باب التخويف وزرع الرعب في قلوب الناس بهدف الردع عن الحرام وإن كان هذا الأسلوب جيداً في الوعظ والإرشاد لأن هناك نفوساً لا تنزجر بأسلوب الترغيب فهي لا تتأثر ولا تتعظ إلا بهذه الطريقة، فنحن لا نذكر ما نذكره من هذا الباب وإن كان في الواقع كذلك، إلا أننا نذكره بهدف بيان الحقيقة التي ذكرها القرآن الكريم وأشار إليها المعصومون(ع) في مخاطبتهم للناس في مواضع كثيرة بهدف إنارة الطرق والبصائر والقلوب والعقول التي أظلمتها شوائب الدنيا، فهم سلام الله عليهم يصححون مسارنا ويقيمون مسيرنا في تلك الجادة المظلمة والتي لولا تعاليمهم وإرشاداتهم لبقيت كذلك، فلقد منَّ الله بهم علينا لنسير على بصيرة من أمر دنيانا وآخرتنا، تلك الجادة التي لا يمكن التعرف عليها وعلى ما يواجهنا فيها من العقبات إلا عن طريق خزائن علم الله عليهم سلام الله كلما أخرجنا نفَساً أو أدخلناه.
أيها المؤمنون والمؤمنات.. لا يستخفنّ أحدكم بالمرحلة القادمة، ولا تستخفن بصعوبة الموقف وشدة المحنة وكثرة العقبات التي لا تزيلها إلا طاعة الله بصدق وإخلاص ولا يخففها عنا وعنكم سوى العمل الصالح، فإن الشدائد التي أضعفتنا في دار الدنيا لا تعادل ذرة من الشدائد التي سوف تواجهنا عند الموت وبعده.
يقول الإمام الرضا(ع) : إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن، يوم يولد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يبعث فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا:
ويقول الإمام زين العابدين(ع) : أشد ساعات ابن آدم ثلاث ساعات، الساعة التي يعين فيها ملك الموت، والساعة التي يقوم فيها من قبره، والساعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك وتعالى فإما إلى الجنة وإما إلى النار:
وأمام هذين الحديثين أتساءل لكم ولنفسي.. كيف سيكون حالنا عندما نرى ملائكة الله ومعهم ملك الموت قد أتوا لنزع أرواحنا من أجسادنا ونحن لا ندري كيف تخرج الروح، هل تخرج بخفة أم بشدة؟ وهل يأتون ببشارة نعيم أم بشارة جحيم؟ ولا نعلم كيف تكون أشكالهم، هل هي مؤنسة لنا أو مرعبة؟ وهل سيتعاملون معنا برفق ولين أم بقساوة وغلظة؟ وكيف سيكون حالنا عندما نعلم أنهم ملائكة الله؟ وأن هذه اللحظة هي اللحظة الحاسمة التي تطوى فيها سجلات الحياة وتبدأ فيها مرحلة ظهور النتيجة؟ وبماذا سنشعر عندما نفكر في أولادنا وأزواجنا وأصدقائنا الذين سيستيقظون عند الصباح أو في أي وقت ويجدوننا جثثاً هامدة قد خرج منها السر الإلهي العظيم؟
ألم نفكر لحظة في شدة المحنة وصعوبة الموقف عندما تساق أرواحنا إلى علم الله ونحن نجهل المصير القادمين عليه؟ وكيف سيكون حالنا عندما نخرج من قبورنا في يوم القيامة للحساب؟ هل معنا عمل صالح ندخل به الجنة أم أن كتابنا لم يحص علينا سوى الشر والخيانة والسرقة وحب الشهوات وظلم الناس فإذا سأَلَنا الله فهل لدينا الجواب المقنع والحجة والمعذرة، أم نسكت وتشهد علينا أيدينا وأرجلنا وجميع جوارحنا فنعاتب الجوار فتقول لقد أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.
وكيف سيكون حالنا عندما نقف في ذلك الموقف الكبير والمشهد العظيم الذي مهما حاولنا أن نقرّب وضعه إلى أذهاننا كان أعظم مما نظن ونتوهم.
لقد صوّر لنا الإمام السجاد هذه الحالة، ولكن قليلاً من الناس يعملون بالموعظة ويأخذون بالنصيحة، فقد قال(ع) في دعائه: فمَنْ يكون أسوأ حالاً مني إن أنا نقلت إلى قبر لم أمهده لرقدتي ولم أفرشه بالعمل الصالح لضجعتي…أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً أحمل ثقلي على ظهري.. فالآن من عذابك من يستنقذني:
يجب أن نعمل ونمهد لنخفف عن أنفسنا في تلك المراحل كل شدة وصعوبة، ولنزيل من طريقنا جميع العوائق التي تمنعنا من الوصول إلى السعادة.

الإِحْتِضَارُ وَالنَّزْع

الإحتضار هو السَّوق إلى الله عز وجل، وقد أُطلق عليه هذا اللفظ لأمور ثلاثة:
الأمر الأول: وهو حضور الموت عنده.
الأمر الثاني: وهو حضور الملائكة الموكلة بقبض روحه.
الأمر الثالث: وهو حضور أهله عنده أثناء الإحتضار والنزع.
ونحن بدورنا لا نرجّح الأمر الثالث لأنه ليس كل محتضَر يحضر أهله عنده، فكم من شخص توفي ولم يعلم به أهله إلا بعد وفاته وانتقاله من مرحلة الإحتضار إلى مرحلة الموت، ونحن هنا في مقام الترجيح فقط ولسنا في مقام نفي الأمر الثالث إذ قد يكون معتمد هذا الرأي ناظراً إلى الأغلب، فإن الأغلب من الأموات يحضر أهله عنده، وبالأخص الذي تظهر عليه ملامح الموت كالمصابين بالأمراض الخطيرة والمميتة.

وَاجِبَاتُ الإِحْتِضَارِ وآدَابُه

الإحتضار أمر عظيم، فلا يوجد أعظم من أن ينظر المرء إلى ملائكة الله وهم جالسون أمامه لقبض روحه بين لحظة وأخرى، ولكونه أمراً عظيماً وشديداً فقد فرضت الشريعة علينا آداباً وواجبات تجاه المحتضَر، لأن هذه الآداب من شأنها أن تخفف وطأة النزع عن المحتضر.
فمن واجباتنا تجاه المحتضر أن نوجهه لجهة القبلة فيُلقى على ظهره ويُجعَل باطن قدميه نحو القبلة بحيث إذا أجلسناه كان وجهه مستقبل القبلة، ويجب فعل ذلك سواء كان المحتضَر صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثى، وهذا الواجب لا يختص بوليه فقط، بل هو واجب كفائي على كل من حضر الوفاة، فإذا قام به أحد سقط عن الباقين، وقد ورد أن توجيه المحتضر نحو جهة القبلة يخفف عليه سكرات الموت.
وأما آداب الإحتضار فهي كثيرة، وكلها نافعة، وعلينا أن نصنعها مع المحتضرين رجاء أن يلهم الله أشخاصاً يفعلون ذلك لنا أثناء احتضارنا ليخفف الله عنا شدة النزع.
منها: نَقْلُه إلى مُصَلاّه: وهو المكان الذي كان يصلي فيه الفرائض والنوافل، والصلاة أمر عظيم، وبفضلها يخفف الله تعالى عنه.
ومنها: تلقينه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله:
ومنها: تلقينه الإقرار بالأئمة المعصومين(ع): لأنهم يحضرون عنده ويسمعون منه تلك الشهادة عند الإحتضار.
ومنها: تلقينه كلمات الفرج: وهي، لا إله إلا الله الحليم الكريم..إلى قوله: وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين: ويستحسن أن تكون خاتمة تلقينه كلمة لا إله إلا الله حيث ورد أنه من كانت خاتمته هذه الكلمة دخل الجنة.
ومنها: قراءة القرآن عند المحتضر: لأن ذلك يهون عليه الشدة ويخلصه من وسوسات إبليس في تلك الأثناء، وقد جرت عند المؤمنين عادة حسنة وهي أنهم يختمون القرآن عند المحتضر أو بعد وفاته فيما يقرب من ساعة حيث توزع أجزاء القرآن على ثلاثين شخصاً فيقرأ كل منهم جزءاً وهذه سنة حسنة نحن نؤكد على اتباعها.
ومنها: إضاءة المكان الموجود فيه إذا حصل الإحتضار ليلاً.
ومنها: إغماض عينيه وفمه كيلا يكون منظره قبيحاً.
ومنها: شد رجليه ووضعهما قريبتين من بعضهما وتغطيته بثوب.
ومنها: التعجيل بدفنه إذا تُؤُكد موته: أما إذا حصل الإشتباه فلا يجوز دفنه إلا بعد التأكد أو مضي ثلاثة أيام، ويكره أن يحضر عنده جنب أو حائض حيث ورد أن الملائكة تتأذى منهما، كما ويكره وضع حديد على بطن الميت كما يصنع بعض الأهل والأصحاب من خلال عادات سيئة اتبعوها عن الآباء والأجداد.

مَاذَا يَرَى الإِنْسَانُ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْت

قال تعالى(وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)
يرى الإنسان عند سكرات الموت أشياءاً لا يراها غيره، ولأجل ذلك نلاحظ بأن المحتضر يلتفت يميناً وشمالاً ويراقب من هنا ومن هناك، ويحدق النظر فيما يرى، فمرة ينظر إلى تلك الأشياء الغريبة، ومرة أخرى ينظر إلى أهله وأولاده ومن حضر احتضاره ليتحسس منهم أنهم يرون ما يرى أو أنهم لا يرون ذلك، فهو يرى تلك الأشياء ولكنه في بعض الأحيان لا يستطيع أن يعبّر عما يشاهد في تلك اللحظات الصعبة التي يكون مشغولاً فيها بنفسه وبارتحاله عن هذه الدار، وقد حكي عن بعض المحتضرين أنه كان يسأل أهله فيقول: من هذا؟ ومن ذاك؟ ولكن أهله لم يشعروا بوجود شيء غريب، حيث كان ممنوعاً على غيره أن يرى ما يراه إلا عند مرحلة النزع والإحتضار.
وأقرب جواب لسؤال هذا المحتضر هو أنه يرى الملائكة في مكانه، إما فوق رأسه أو في زوايا الغرفة أو في مكان آخر، وربما يرى منزلته في الجنة أو منزلته من النار، على اعتبار أن الملائكة التي تأتي لقبض روحه تأتي ومعها البشارة له إما بالنعيم وإما بالعذاب، فقد قال أمير المؤمنين(ع):إحذروا يا عباد الله الموت وسكرته فأعدوا له عدته فإنه يفاجؤكم بأمر عظيم بخير لا يكون معه شر أبداً أو بشر لا يكون معه خير أبداً … إنه ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أي المنزلتين يصير إلى الجنة أم النار…الخ
وفي خصوص ما يراه المؤمن قال الإمام الصادق(ع):ما يخرج مؤمن عن الدنيا إلا برضى منه وذلك أن الله تبارك وتعالى يكشف له الغطاء حتى ينظر إلى مكانه من الجنة وما أعد الله له فيها:
وربما يرى المحتضر صوراً جميلة هي غير صور الملائكة فقد يرى أمامه رسول الله(ص) وعلياً والأئمة(ع) فقد ورد عن الصادق(ع) أنه يمثّل له رسول الله(ص) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم(ع)
وعن حارث الأعور قال أتيت أمير المؤمنين(ع) ذات يوم نصف النهار فقال ما جاء بك؟ قلت حبك والله، فقال(ع) : إن كنت صادقاً لَتراني في ثلاث مواطن، حيث تبلغ نفسك هذه(وأشار بيده إلى حنجرته) وعند الصراط وعند الحوض:
وقال الصادق(ع) : ما من مؤمن يحضره الموت إلا رأى محمداً وعلياً حيث تقر عينه، ولا مشرك يموت إلا رآهما حيث يسوؤه:
وقال علي(ع) : من أحبني وجدي عند مماته بحيث يحب، ومن أبغضني وجدني عند مماته بحيث يكره:

رُؤْيَةُ إِبْلِيسَ عِنْدَ الإِحْتِضَار

من جملة الأشياء التي يشاهدها المحتضر حين النزع والسوق إبليس اللعين الذي يبقى ملازماً للإنسان حتى آخر رمق له في الحياة، بمعنى أنه لا يترك الإنسان وشأنه حتى في حالة الإحتضار علّه ينجح في غوايته وإبعاده عن الله تعالى في تلك اللحظات التي يكون فيها الإنسان أحوج إلى اللطف الإلهي، فهو يطارده ويلاحقه من مكان إلى آخر حتى أنه يلاحقه أثناء النوم لينجح في عملية الفصل بينه وبين الله عز وجل لأنه العدو اللدود للبشر منذ أن أمره الله بالسجود لآدم وامتنع عن تنفيذ الأمر الإلهي حسداً وتكبراً وافتخاراً بأصل خلقته عندما قال لربه خلقتني من نار وخلقته من طين وهو يرى أن النار أهم من الطين وأنه هو الذي يستحق أن يُسجد له وليس آدم، فهذا العدو يجب الحذر منه منذ يوم التكليف بل قبل ذلك حيث يجب علينا أن نحذر أولادنا الصغار من سطوات الشيطان كيلا يعتادوا عليها في صغرهم فيصبح من الصعب عليهم أن يتخلصوا منها عند سن التكليف.
وأمام هذا العدو الخطير ووسوساته المستمرة وحفره العميقة وأساليبه الجذابة وخدعه المحكمة ليس لنا خلاص منها إلا باللجوؤ إلى الله تعالى والنظر والتأمل في الآيات الخاصة بالحديث عن هذا العدو، وها نحن سوف نذكر لكم الآيان بعضها من باب التحصين وتكرار تلاوتها بهدف إبعاد الشيطان عنا وخصوصاً في مرحلة الإحتضار التي يستحب عندها قراءة القرآن الكريم وذكر الله عز وجل لأن الشيطان يهرب من المواضع التي يذكر فيها رب العالمين أو عباده الصالحون، وقبل ذكر الآيات حول الشيطان الرجيم نذكر لكم نصاً عن الإمام الصادق(ع) يعلمنا فيه إحدى طرق التحصين من همزات الشياطين فيقول(ع):ما من أحد يحضُرُه الموت إلا وَكّل به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر ويشككه في دينه حتى يَخرج نفسُه فإذا حضرتم موتاكم فلقنوهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حتى يموتوا:

وَسْوَسَةُ الشَّيْطَان لِلْمُحْتَضَر

إن من جملة ما ذُكر حول وسوسات الشيطان للإنسان في لحظاته الأخيرة هو أن المحتضَر يشعر بالعطش فيأتيه الشيطان بكوب من ماء بارد ويقول له أكفر حتى أسقيك أو تبرأ من النبي وأهل بيته حتى أرويك بهذا الماء البارد، أو أنه يخيّل له بأنه قادر على إرجاعه إلى الدنيا وإلى أهله بشرط أن يرتد عن دينه، وهنا يجب على الإنسان أن يكون قوياً أمام الشيطان، وخصوصاً في تلك اللحظات الحاسمة، والطريقة التي تَكْسَب بها القوة وتتغلب بها على الشيطان في تلك الشدة هي أن تكون في دار الدنيا أقوى منه، فإنك إن كنت في حياتك مطيعاً لمولاك ومخالفاً لهواك فلن يستطيع الشيطان أن يوقع بك في تلك المرحلة لأنك أعييته في دار الدنيا.
ولكن الله تعالى يحفظ عباده المؤمنين من سطوات الشياطين، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال:إن الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن شماله ليضله عما هو عليه فيأبى الله عز وجل ذلك وذلك قول الله تعالى(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)
ولنستمع معاً إلى الخطابات القرآنية والتحذيرات الربانية من سطوات إبليس وأعوانه، قال تعالى في سورة البقرة(وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
وفي سورة المائدة(إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ)
وفي سورة النحل(فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ)
وفي سورة النور(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
وفي سورة المؤمنون(وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ)
وفي سورة فاطر(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)
إذاً يجب علينا أن نحذر من هذا العدو في جميع مراحل حياتنا قبل الإحتضار وعنده لنكون من الرابحين.

الشُّعُورُ بِالنَّدَم عِندَ الإِحْتِضَار

عندما يأتي الأجل وتأتي ملائكة الله لقبض روح الإنسان يصبح في مرحلة النزع والإحتضار فيرى فيها ما يرى من الأمور الغريبة التي لم يرى مثلها في حياته، ومن جملة ما يراه النبي وآله(ص) وكذلك يرى إبليس اللعين، وقد تحدثنا في البحوث الماضية عن تمثل النبي وآله أمام المحتضر وما يدور بينهم وبينه، وهنا سوف نتحدث عما يمكن أن يراه غيرهم وما يمكن أن يشعر به.
إن أول ما يشعر به الإنسان عند الإحتضار هو الندم على التقصير الذي صدر منه في دار الدنيا، فيندم حيث لا ينفع الندم، ويتمنى العودة إلى الدنيا من أجل أن يعمل صالحاً فلا يستجاب له، وإلى هذا الأمر أشار القرآن الكريم بقوله(حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)
وكذلك وعظنا القرآن الكريم حول هذا الأمر فقال(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)
وفي هذا المجال أيضاً وعظنا أمير المؤمنين(ع) فقال: تنفسوا قبل ضيق الخناق: يعني قبل أن يأتي الأجل وتنتهي تلك الفرصة التي فتحها الله لعباده منذ سن التكليف وحتى لحظة المعاينة.

مَرَارَةُ الفِرَاق

في تلك اللحظات يشعر المحتضَر بمرارة الفراق، حيث سوف يترك زوجته وأولاده وأخوته وأصدقاءه ويفارقهم، وربما يشغله المقام عن التفكير بجميع الخلق، ويتعلق بشعرة يمكن أن يرجو فيها الخلاص من العذاب، وفي ذلك قال تعالى(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)
وكذلك قال سبحانه(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ)
وفي تلك اللحظات تُصور له حسناته وسيئاته ويتمنى لو أنه لم يفعل حراماً واحداً في حياته لشدة الموقف وهول المرحلة، وإذا كان الموت لوحده قد أراه ذلك وأشعره بتلك الصعوبة والشدة، وقد ورد الصادق(ع) :إن بين الدنيا والآخرة ألفَ عقبة أهونها وأيسرها الموت: فكيف سيكون حاله عندما يمر في المراحل الأخرى بدءاً من القبر مروراً بالبرزخ ووصولاً إلى مشاهد القيامة وما أدراك ما تلك المشاهد ففي ذلك اليوم تبرز الجنة والنار ويقام العرش ويبدأ الحساب ويجزى الإنسان بالخير خيراً وبالشر شراً، وهذا ما وعد الله به عباده حيث قال(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)وفيه قال تعالى(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)

الأُمُورُ الّتِي تُهَوِّنُ سَكَرَاتِ المَوْت

مَن منّا لا يحب أن يكون حاله مُرْضِياً عند سكرات الموت؟ ومن منا لا يحب أن تخرج روحه من تعب إلى راحة، ومن شقاء إلى سعادة، ولكن لكي نحصل على هذا الأمر ونحقق لأنفسنا تلك الأمنية فهناك مقدمات يجب أن نوفرها بأنفسنا أو يوفرها لنا غيرنا أثناء الإحتضار، أما الأمور التي يجب أن نمهد بها لأنفسنا فهي طاعة الله والإخلاص له في كل شيء، فإن الإنسان إذا كان مؤمناً هوّن الله عليه جميع مراحل الشدة منذ لحظة المعاينة وحتى الوصول إلى الجنة.
وذلك أن للمؤمن كرامة على الله تعالى، فهو عنده أعظم من ملائكته وسماواته وأرضه، وقد جاء في الحديث القدسي: ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن: وقد وقف رسول الله مرة أمام البيت المعظّم فقال : أيها البيت ما أعظم حرمتك وأعظم منها حرمة المؤمن:
فالإيمان الصادق هو من أهم العوامل المساعدة على التخفيف عند الإحتضار، وهذا ما يجب أن نضعه نصب أعيننا طيلة حياتنا، فلا ينبغي أن ننسى ما يسعدنا في الآخرة وما يجلب لنا الشقاء فيها.
ومن جملة الأمور التي تهوّن الموت وسكراته وتخفف عنا شدائده: ما ذكرناه في بحث النزع والإحتضار، وكذلك بر الوالدين، قال الإمام الصادق(ع) : إعتقل لسان رجل من أهل المدينة على عهد رسول الله(ص) في مرضه الذي مات فيه فدخل عليه رسول الله فقال له: قل لا إله إلا الله فلم يقدر عليه فأعاد عليه رسول الله فلم يقدر عليه وعند رأس الرجل امرأة فقال لها هل لهذا الرجل أم فقالت نعم يا رسول الله أنا أمه فقال لها أفراضية أنت عنه أم لا؟ فقالت لا بل ساخطة فقال لها رسول الله فإني أحب أن ترضي عنه فقالت قد رضيت عنه لرضاك يا رسول الله فقال له قل لا إله إلا الله فقال لا إله إلا الله فقال قل يا من يقبل اليسير ويعفو عن اليسير إقبل مني اليسير واعف عني الكثير إنك أنت العفو الغفور فقالها، فقال له ماذا ترى فقال أرى أسودين قد دخلا عليّ قال أعدها فأعادها فقال ماذا ترى فقال قد تباعدا عني ودخل أبيضان وخرج الأسودان فما أراهما ودنا الأبيضان مني الآن يأخذان بنفسي فمات من ساعته:
وكذلك ما يهوّن علينا شدة الموت وسكراته كلمات الفرج، وهي دعاء عظيم ينبغي أن نقرأه مراراً، وهو: لا إله إلا الله الحليم الكريم..إلى قوله: وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
ومما يهون علينا سكرات الموت ما قاله الإمام الصادق(ع):من أحب أن يخفف الله عز وجل عنه سكرات الموت فليكن لقرابته وصولاً وبوالديه باراً فإذا كان كذلك هون الله عليه سكرات الموت:
ولكن إذا اشتد النزع على المؤمن فليستبشر بذلك فإن الموت ذاته كفارة لذنوبه لما ورد عن الصادق(ع) : الموت كفارة ذنب كل مؤمن:
وأختم هذا البحث بموعظة لأمير المؤمنين(ع) يجب أن نعمل بها لأنها تحكي لنا حالنا في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فقد قال(ع):إن العبد إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة مُثّل له ماله وَوُلدُه وعملُه، فيلتفت إلى ماله ويقول: والله إني كنت عليك لحريصاً شحيحاً فماذا عندك فيقول خذ مني كفنك، فيلتفت إلى وُلده فيقول والله إني كنت لكم محباً، وإني كنت عليكم لمحامياً فماذا عندكم فيقولون نؤديك إلى حفرتك ونواريك فيها، فيلتفت إلى عمله فيقول والله إنك كنت عليّ لثقيلاً وإني كنت فيك لزاهداً فماذا عندك فيقول أنا قرينك في قبرك ويوم حشرك حتى أُعرض أنا وأنت على ربك:

هَلْ يَرَى المَيتُ وَيَسْمَعُ مَا حَوْلَه

إن الموت وما يتعلق به كلها أمور من الغيب، ولا يمكن لأحد من الناس أن يعلم الغيب من تلقاء نفسه إلا إذا أطلعه ربه على شيء منه، لأن الغيب من اختصاص الله وحده، وقد ذكر لنا القرآن الكريم هذه الحقيقة في مواضع كثيرة، ففي سورة الحشر(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) وفي سورة التغابن(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وفي سورة الأنعام(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) ومن جملة الأمور التي لم يكن لنا أن نعرفها لولا النبي وآله(ص) مسألة هل أن الأموات يرون ويسمعون؟ وهذا ما يسأل عنه كثير من الناس من باب حب المعرفة أو من باب تطمين نفوسهم عندما يحل بهم هذا السر الإلهي الكبير.
لقد ورد أن الروح عندما تخرج من الجسد تبقى في مكانه، وتستقر فوقه، فهي ترى وتسمع كل ما يدور حول الجسد، ولكنها تسمع بنظام الآخرة وليس بنظام الدنيا المرتبط بالآلات والجوارح، فهي ترى من دون عين، بل هي أبصر من العين، حيث قد ترى الروح ما لا تراه العين، وما العين سوى واسطة لنظر الروح في الحياة الدنيا، حيث لا عمل للجوارح من غير روح، والدليل أن هذا الجسد الذي تستخدمه الروح في الدنيا ما هو إلا أداة لها هو أنه عند الموت يبدأ بالتفكك والإهتراء فيصبح طعاماً للحشرات، وجاء في تعريف حقيقة الروح أنها جوهر ملكوتي يستخدم الجسد في حاجاته، فإذا انفصلت الروح عن الجسد فلن تعود إليه إلا في يوم النشور يوم ينفخ في الصور فيأتي الناس أفواجاً.
وورد أن الروح تواكب الجسد من لحظة الوفاة إلى القبر فتمكث في القبر فترة ثم تنتقل بعلم الله تعالى إلى عالم البرزخ، وما أريد أن أقوله هو أن كثيراً من الناس وقعوا في شبهة تجاه عودة الروح للجسد، وذلك من خلال سؤال الإنسان في القبر حين يأتي منكر ونكير لسؤاله فيتوهم الناس بأن الروح في القبر ترجع إلى الجسد، وهذا خطأ، لأن السؤال الذي يطرحه الملكان هو للروح وليس للجسد، ولكن شاءت إرادة الله تعالى وحكمته أن يطرح هذا السؤال على الروح وهي بالقرب من الجسد في تلك الحفرة المظلمة، ولنا بحوث مطولة عندما يصل الكلام إلى موضوع القبر وما يرى فيه الإنسان وماذا يشعر.
لقد ورد أن رسول الله(ص) وقف على القتلى ببدر وقد جمعهم في قَلِيب فقال: يا أهل القليب إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فقال المنافقون إن رسول الله يكلم الموتى فنظر إليهم فقال : لو أُذن لهم في الكلام لقالوا نعم وإن خير الزاد التقوى: وفي حديث آخر قال: بل هم أسمع منكم:
وقوله(ص) لو أذن لهم، يوحي بكل وضوح أنهم يسمعون ولكنهم لا يستطيعون النطق، وغالبية الناس يعتقدون ذلك فإن أغلب الناس إذا وقفوا على ميتهم خاطبوه وكأنه حي بينهم.

بَغْتَةُ المَوْت

إذا جاء أجل الإنسان فارق الدنيا بلمح البصر، فلا يستطيع بعد ذلك أن يصنع شيئاً أو يودع أهله أو يبرّئ ذمته مما تعلق بها من حقوقٍ لله وللمغلوقين، وهذا العجز فيمن أتى أجله لأَكبر دافع للعمل الدؤوب والإسراع إلى طلب المغفرة، إذ قد يأتيه الموت من حيث لا يشعر وفي أي مكان وزمان، ومن دون أي إنذار أو أية مقدمات، وإلى هذا الموقف الحرج يشير القرآن الكريم بقوله(مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ)
والإنسان في دار الدنيا يلهو في أمر المعيشة والجمع والحصول على المراكز العالية في المؤسسات العامة والخاصة، فيصبح كل همه المنافسة والإعتلاء على الآخرين وإن كان ذلك على حساب دماء الناس وحقوقهم وكراماتهم، حيث يعمي الشيطان بصيرته فيشغله عن التفكير في ربه، ويبقى على هذه الحالة من الجمع والكسب والإنشغال في جمع الدنيا التي لا يدري المرء أهي جمعته أم هو جمعها حتى يأتيه الموت بغتة فيكون المهنأ فيما جمعه لغيره والعبئ على ظهره، ولطالما حذرنا القرآن الكريم من الوقوع في هذا الفخ المحكمة شباكه والمتينة حباله والذي يصعب الخلاص منه إلا بالصدق والتوبة من الذنوب والإنابة إلى الخالق القدير سبحانه وتعالى، ولكننا أعرنا الجماجم لغير الله وملّكنا القلوب لعدوه فتربص بنا وسيطر على نفوسنا واستحوذ على قلوبنا فأنسانا ذكر ربنا في الحياة، وجرنا إلى النار فيما بعد الممات، وكأنه لم يسمع قول الله عز وجل(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) الأمر لا يحتاج سوى إلى تأمل بسيط في حقيقة الدنيا والآخرة ونصل إلى النتيجة المطلوبة.
منهم من أمن مكر الله وعذابه، وظَنَّه بعيداً، ومنهم من شغلته الدنيا حتى أدركه الموت ولم يأمن مكر الله عمداً وإنما تناساه بسب حب الدنيا التي كانت رأس كل خطيئة وسبب كل عذاب.
قال تعالى في وعظنا وإرشادنا(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)
لقد وصل بهم الحد إلى عد موتاهم فافتخروا بأن عدد موتاهم أكثر، وهذا هو الجهل والغرور والحرص على جمع الدنيا وحبها والتعلق بها، وهذا هو التفسير الأصح.
وقد تواعدهم ربهم بأن نتيجة هذا السلوك هو السؤال في يوم الحساب عن كل نعيم أنعم الله به عليهم، وبالأخص نعمة الإيمان التي كانت وما تزال مصدر كل خير للإنسان في دنياه وآخرته، ولقد أعطانا أمير المؤمنين علي(ع) موعظة حول قوله تعالى(ألهاكم التكاثر) فقال: يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ! وَزَوْراً مَا أَغْفَلَهُ وَخطراً مَا أَفْظَعَهُ! لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكرٍ، وَتَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ! أَفَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ! أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ! يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ، وَحَرَكَاتٍ سَكَنَتْ، وَلْأَنْ يَكُونُوا عِبَراً، أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً، وَلِأَن يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ، أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُوموُا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ! لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ، وَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ، وَلَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ، وَالْرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ، لَقَالَتْ: ذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ ضُلاَّلاً، وَذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالاً، تَطَأُونَ فِي هَامِهِمْ، وَتَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَرْتَعُونَ فِيَما لَفَظُوا، وَتَسْكُنُونَ فِيَما خَرَّبُوا، وَإِنَّمَا الْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَنَوَائِحُ عَلَيْكُمْ. أُولئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ، وَفُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ، الَّذِينَ كَانتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ، وَحَلَبَاتُ الْفَخْرِ، مُلُوكاً وَسُوَقاً، سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلاً سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ، وَشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لاَ يَنْمُونَ:

الفِرَارُ مِنَ المَوْت

قال سبحانه وتعالى في سورة الجمعة(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)
إن الإنسان في هذه الحياة يهرب من الموت ويكره حلوله ويخاف من أجله مع أنه أمر مكتوب عليه منذ لحظة وجوده في مرحلة الدنيا، فتراه يفر من الموت هارباً من القضاء والقدر، فبدل أن يشغل المرء نفسه بالهروب والفرار فليشغلها بما يهوّن عليه شدة الموت وما يخلصه من العذاب في يوم الحساب، فإن ذلك أنفع له بكثير، لأنه مهما هرب من الموت فلا بد وأن تأتي اللحظة التي يعاين فيها ملك الموت وتخرج روحه من جسده، فلقد أكد لنا القرآن إصابة الموت لنا ولقيانا له، وهنا كان الأجدر بالإنسان أن يحصن نفسه ويتذخر ليوم الفاقة والحسرة والندامة حيث لا نفع للمعذرة ولا للندم هناك.
والإنسان في هذه الحياة لا يهرب من الموت نفسه، لأن الجميع مؤمنون بحلوله، ولكنه يهرب من أسباب الموت، وهو أمر طبيعي لدى أكثر البشر الذين يحافظون على حياتهم من الأخطار التي قد تُفقدهم الحياة.
فالفرار من الموت هو الفرار من أسبابه، ومهما تجنبنا الأسباب فلا بد وأن تأتي اللحظة التي تفاجؤنا بالموت وعندها نُردُ إلى الله مولانا لينبئنا بما كنا نعمل في الحياة الدنيا ويجزينا بالخير خيراً وبالشر شراً.
وتأتي تلك اللحظة الحاسمة ويدخل الإنسان في مرحلة النزع والإحتضار ويبدأ جسده بالتوقف عن الحركة بدءاً من القدمين وصعوداً حتى تبلغ الروح الحلقوم، وهو الترقوة والحجنرة، وفي ذلك يقول الإمام الصادق(ع): إنه إذا بلغت النفس الحلقوم أُريَ مكانه من الجنة فيقول ردوني إلى الدنيا حتى أخبر أهلي بما أرى؟ فيقال له ليس إلى ذلك سبيل، وإليه يشير القرآن بقوله(إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ويصور لنا القرآن الكريم هذه الحالة فيقول(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) وقال تعالى(كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)
يعني إذا بلغت الروح إلى الحلقوم فهي اللحظة الأخيرة في حياة الإنسان، وعند ذلك يدخل في مرحلة الآخرة، فإذا فارقت روحه جسده(قيل من راق) ولفظ قيل في الآية يوحي بعدم صدورها من الميت وإن كان ذلك ينطبق عليه أيضاً، وكذلك يمكن أن يصدر ذلك عن أهله، فهنا احتمالان:
الإحتمال الأول: أن يكون القرآن الكريم يحكي لنا لسان حال الميت أو ما تقوله الروح لمن حولها فهي تريد أن تقول هل من طبيب يداوي ما نزل بي؟ فيرد عليها بأن هذا الحدث ليس له دواء فهو الموت الذي لا مفر منه ولا يمكن لأي مخلوق في العالم أن يعيد الروح إلى الجسد إلا بإذن الله عز وجل.
الإحتمال الثاني: أن يكون هذا حال أهل الميت الذين لا يصدقون للوهلة الأولى أنه مات فهم يظنون بأنه أغمي عليه أو حدث له أمر يمكن الخلاص منه، فيستدعون الأطباء للكشف عليه ويلوذون ببعض من يرتاحون له، فيجابون بمثل ما يجاب الميت أو روحه بأنه الموت الذي أتاه فهو الذي أوقف حياته وعطل جسده عن الحركة، وعند ذلك يعلم الجميع بأن هذه هي لحظة الفراق، وإليه أشار تعالى بقوله(وظن أنه الفراق) والظن هنا بمعنى العلم والإعتقاد.

الوَصِيَّةُ قَبْلَ المَوْت

قال تعالى(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)
وقال تعالى(يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)
وهنا ينبهنا القرآن الكريم إلى موضوع الوصية وبالأخص إذا بدأت فينا ملامح الموت وقد خلّفنا وراءنا تركة، فينبغي علينا أن نوصي ونكتب تلك الوصية ونُشهد عليها المؤمنين كيلا يقع الخلاف بين الورثة، فإن أكثر المشاكل التي تنشب بين الأشقاء هي موضوع تركة الأبوين، فلو كان الوالدان موصيين لما نشبت المشاكل ولما تحركت نار الكره والحقد بين الأولاد، من هنا تظهر لنا ضرورة الوصية وإن لم تكن في الشريعة واجبة بالحكم الأولي، وأقول بالحكم الأولي لأنها قد تجب إذا كان للناس عليك حقوق فيجب عليك أن تخبر أهلك بتلك الحقوق.

حَالُ أَهْلِ المَيت

وينتقل الإنسان من حالة النزع والإحتضار إلى حالة الموت حيث تخرج روحه من جسده فيصبح جثة هامدة لا نَفَسَ ولا حركة ولا بصر ولا سمع، فمنهم من يصدق بالأمر، ومنهم من يسيطر عليه الوهم فيظن بأنه لم يمت لأنه ما زال أمام عينيه، فيلجأ إلى فلان وفلان ويطلب منهم المساعدة فيأتيه الجواب بالنفي لأن ما نزل بهذا الميت أمر حتمي لا يقدر على رفعه سوى الخالق القدير الذي كتب علينا الموت وجعله من أهم سنن الحياة، فهو باب الآخرة وأحد أكبر عوامل الإمتحان في هذه الدنيا، وقد أشار القرآن إلى هذه الناحية بقوله تعالى(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)
أي ليمتحنكم في هذه المرحلة لأنكم لم تُخلَقوا عبثاً، وقد امتحن الله تعالى جميع الناس من الأولين والماضين، وسوف يجري هذا الإمتحان على كل من يأتي بعدنا(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) فعندما تخرج روح الإنسان من جسده يقف أهله عنده باكين متأسفين متحسرين على فقد حبيبهم، ومن الطبيعي أن يحزن الإنسان على فراق أحبته وأهله، ولكن لا ينبغي للحزن أن يجرنا نحو معارضة حكم الله وقضائه أو نحو ارتكاب الحرام بل يجب أن نتجمل بالصبر فهو الوسيلة الوحيدة للترويح والتخفيف فيجب عند المصاب أن نذكر الله ونحمده على كل حال فهو خالقنا ومالكنا يفعل بنا ما يشاء يحيينا ويميتنا ولا يُسأل عما يفعل فله الحكم وله الأمر فهو الذي أعطى وهو الذي أخذ، فعند المصيبة يجب علينا أن نلجأ إلى الله تعالى ونطلب منه الإعانة على الصبر والله يحب ذلك من عباده فهو يرحمهم ويصلي عليهم إذا لجؤوا إليه، قال تعالى(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) بهذه الطريقة الإيمانية كان يواجه الأنبياء والأولياء ما ينزل بهم من محن وشدائد ومصائب، أما أن نفقد صوابنا وصبرنا ونكفر ونتكلم بكلام لا يجوز التفوه به أو نضرب وجوهنا ونمزق أثوابنا كما تفعل كثيرات من النسوة عند نزول المصيبة عليهن، وكذلك يفعل بعض الرجال أيضاً فذلك أمر مبغوض عند الله ومرفوض في الشريعة السمحاء.
فمن كان يرجو رحمة الله وثوابه له ولميته فليصبر وليدعو للميت بالرحمة والمغفرة، فإن هذا خير ما يفعله أهل الميت، وقد ورد أن الإمام الصادق(ع) مرّ بأهل ميت يبكون ميتهم فقال ما يبكيكم فقال لقد مات لنا حبيب فقال(ع) : إعتبروه مسافراً فإن لم يرجع إليكم ذهبتم أنتم إليه:
وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نفهمها فلربما لم نلبث بعد ميتنا سوى وقت قصير، فإذا صبرنا على فقده وسلّمنا الأمر لله وكُتب علينا الموت فسوف يجمعنا الله به، أما إذا فعلنا غير ذلك فسنموت بحسرتنا ولا نحصل على ما نأمل.
فلا يجوز لنا أن نظهر عبارات الإستنكار والإعتراض ونقول لماذا أخذته يا رب، فإنه ما زال في مقتبل العمر، وغير ذلك من العبارات التي نسمعها في مناسبات الموت والتي تنبئ لنا عن نقص في الإيمان وفقدٍ لعامل الصبر الذي هو جزء من الإيمان فإن الإيمان من دون صبر يعتبر في الموازين الإلهية ناقصاً.
وهناك سر إلهي في موضوع الفراق فهناك أشخاص يظنون أنهم إذا فقدوا أحد أهلهم فسوف يفقدون صبرهم وهم لا يظنون بأنهم قادرون على مواجهة الموقف، ولكن هناك أموراً غيبية تتدخل فتلقي الصبر في قلب الإنسان كيلا يفقد عقله وصوابه ويخسر إيمانه، فلقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: إن الميت إذا مات بعث الله عز وجل ملكاً إلى أوجع أهله عليه فمسح على قلبه فأنساه لوعة الحزن لولا ذلك لم تعمر الدنيا:

مُوَاسَاةُ أَهْلِ المَيت

من أجمل الآداب الدينية والإجتماعية أن تواسي أهل الميت وتواكبهم من لحظة فراقه وإلى ما بعد الدفن، فإنك بذلك تخفف عنهم الألم والحزن، وإنه لولا المواساة لما بقي للحياة أية نكهة، بل لم يبق لها أي شأن وقيمة، لأن الحياة قائمة على الآداب والأخلاق، فلو كان أهل الميت لوحدهم من دون من يواسيهم في ذلك المصاب لتضاعف عليهم الحزن وازداد الأذى والأسى، ولذا نجد النبي وآله(ص) يركزون على هذه النقطة ويحثون الناس على مواساة المفجوعين.
قال رسول الله(ص) : من عزّى حزيناً كُسي في الموقف حُلّةً يُحبَّر بها:
وورد أيضاً: كفاك من التعزية بأن يراك صاحب المصيبة: ولا يعني ذلك أن المواساة واجب شرعي بل هو واجب إجتماعي يكسب فاعله الكثير من الأجر والثواب والمغفرة في يوم الحساب لقوله(ص) :التعزية تورث الجنة: وهذا يكشف لنا عن كون المواساة أمراً عظيماً في نظر الشرائع السماوية.
ينبغي أن ننتقي العبارات التي تخفف عن أهل الميت لا أن نتكلم عندهم بما يزيدهم هماً وحزناً فوق همهم وحزنهم أو نكون ثقيلين عليهم كما هو حال بعض الذين يجلسون عند أهل الميت ويتكلمون بكلام جارح أو بعيد عما سنّته الشريعة.
لقد أدبنا أئمتنا وعلّمونا الكثير، ومن جملة ما علّمونا إياه حول المواساة ما قال الإمام الصادق(ع) لقوم أصيبوا بمصيبة: فقال: جبر الله وهنكم وأحسن عزاكم ورحم متوفاكم ثم انصرف:
ولكننا في مجتمعاتنا الإسلامية على وجه الخصوص نرى كثيراً من التدخلات الجانبية التي لا تتفق مع الموازين الشرعية الخاصة بأحكام الأموات فترى كل واحد منهم يلقي النظريات الخاطئة ويتصرف كما يحلو له من دون أن يراقب في ذلك الحكم الإلهي، فهؤلاء يجب أن يرتدعوا عن تلك الممارسات الخاطئة كيلا يجروا أنفسهم وغيرهم إلى الهلاك، وقد حصل شيء أمامنا في إحدى مناسبات الدفن حيث أتى رجل كبير في السن وراح يؤنب أهل الميت على بكائهم وهو يقول لهم البكاء حرام، هذا وهم وخلل يجب أن يُصحح.
وهناك عادات وتقاليد اعتاد عليها أهل المدن والقرى وهي تقاليد قد تختلف مع الموازين الدينية كمن يمنعون توجيه التعزية في المقبرة أو بجانبها كما هو حال بعض الناس في القرى الأخرى فيعيبون على الآخرين هذا الفعل وكأن تقاليدهم نازلة في الكتب المقدسة، نحن نقول للجميع إن لنا ديناً واضحاً قد علّمنا كل أمور الحياة ونحن نرجع إلى هذا الدين وحده ونأخذ عنه ولا نعمل بتلك التقاليد التي قد يكون مؤسسها جاهلاً بأحكام صلاته وصيامه إذا لم يكن تاركاً لهما.
وهناك عادات حسنة ترجع على الناس بالفائدة في الدنيا والآخرة وهي إجراء ذكرى الثالث أو الأسبوع أو الأربعين أو الذكرى السنوية، فهي من المواساة أيضاً وهي مورد من موارد تثقيف الناس والرجوع عليهم بالأجر والثواب، ولكن بعضهم يمنع إجراء ذكرى الأسبوع لأن أهل البلدة قد اعتادوا على ذكرى الثالث فقط، أتركوا الناس تفعل ما تشاء وتنفع موتاها بالطرق التي تريدها، فلو أراد المفجوع أن يحيي ذكرى ميته في كل يوم فليفعل ذلك ولا ينبغي منعه من هذا العمل.
نحن نأتي إلى تلك المناسبات وهمنا الوحيد هو أن يرانا أهل الميت وهذا خطأ لأن السير إلى تلك المواضع والمشاركة في تلك المواساة ينبغي أن نراقب بها رب العالمين سبحانه وتعالى لأنها تحمل معها الأجر والثواب فهي تجمع المؤمنين وتفرض عليهم قراءة القرآن وخصوصاً فاتحة الكتاب التي يعود أجر قراءتها لهم وللميت، ينبغي علينا إذا أردنا أن نشارك في الأسابيع أن ننوي نية القربة لله تعالى حتى يكتب لنا أجر ذلك، فإن تلك المناسبات تلقى فيها كلمات الوعظ والإرشاد ومجالس العزاء فضلاً عن تلاوة القرآن الكريم، فعلينا أن ننوي بمواساتنا لأهل الميت نية التقرب إلى الله فإن ذلك أنفع لنا ولهم وللموتى، أما إذا كان الهدف من مشاركتنا أن نبرز في المجتمع ونتاجر بالموت والموتى فإن ذلك لمن أقبح أنواع التجارات.

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى